ميزانية “السعودية” 2026: وعود متفائلة تصطدم بواقع إقتصادي مضطرب

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 570
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

تبدو الميزانية العامة لـ”السعودية” لعام 2026 بمثابة اختبار دقيق لما يمكن وصفه بمرحلة الحقيقة في مسار رؤية 2030. فالخطط العملاقة التي تم الإعلان عنها خلال السنوات الماضية، والتي تُقدّم رسميًا على أنها جزء من تحول اقتصادي تاريخي، تتقاطع اليوم مع واقع مالي أقل بريقًا، واقع تطغى عليه أسعار نفط أضعف من المتوقع وفجوة متنامية بين الطموح المعلن والقدرة الفعلية على تمويله. وبينما تحاول السلطة إبراز القوة الاقتصادية والجيوسياسية من خلال الإنفاق على المشاريع الضخمة واستضافة الأحداث العالمية مثل إكسبو 2030 وكأس العالم 2034، تشير معطيات عديدة -بما في ذلك ما كشفه موقع “سيمفور”- إلى أن هذه الميزانية الجديدة تحمل ملامح ضغط حقيقي، وربما تحمل أيضًا اعترافًا ضمنيًا بأن مساحة المناورة المالية بدأت تتقلص بشكل ملحوظ. توازن الرؤية بين الوعود الضخمة والواقع المحدود لم يعد ترفًا بل ضرورة، فالتحديات المالية التي تواجهها “السعودية” ليست ظرفية كما يحاول الخطاب الرسمي تقديمها، بل هي نتيجة طبيعية لاعتماد ثقيل على إيرادات النفط وتوسّع غير مسبوق في النفقات الرأسمالية. ومع دخول 2026، تتضح فكرة أساسية يرددها خبراء الاقتصاد: لا يمكن مواصلة الإنفاق وفق النزعة الحالية من دون تكاليف مستقبلية كبيرة. وهذا ما يجعل النقاش حول الميزانية ليس نقاشًا تقنيًا بل نقاشًا حول مسار دولة كاملة. العجز المالي هو أول مظاهر هذا التناقض، فبينما كان الحديث الرسمي خلال السنوات الماضية يركز على هدف الوصول إلى توازن مالي مستدام، جاءت المؤشرات الحكومية في أواخر 2025 لتقر ضمنيًا بأن عجز 2026 سيكون أوسع من المتوقع. تراجع أسعار النفط جعل سعر التعادل المطلوب للميزانية أقرب إلى المستحيل، إذ يقدره صندوق النقد الدولي بأكثر من 90 دولارًا للبرميل، في وقت يصعب فيه ضمان أسعار مستقرة على هذا المستوى. ورغم معرفة السلطات بهذه المعادلة منذ سنوات، إلا أن حجم الالتزامات التي تم ربطها بمشاريع الرؤية جعل أي تعديل في الإنفاق شبه مستحيل من دون مسّ جوهر الخطط الدعائية الكبرى. لا يتوقف الأمر عند اتساع العجز فحسب، بل يمتد إلى الضغط المتزايد على الاحتياطيات والأصول السيادية. فمن الواضح أن اللجوء المتكرر إلى السحب من الأصول الخارجية أو إلى الاستدانة لم يعد حالة طارئة بل بات آلية اعتيادية لتمويل الفجوة بين الإيرادات والنفقات. ومع أن الحكومة تؤكد امتلاكها احتياطيات ضخمة، إلا أن التآكل المستمر لهذه الاحتياطيات يثير قلقًا نقديًا واسعًا، لأن هذه الأصول صُممت لتكون خط الأمان في مواجهة الأزمات وليس خزنة تمويل للمشاريع التي لا تحقق عائدًا مباشرًا. وما يضاعف هذا القلق أن جزءًا كبيرًا من الإنفاق الجاري يذهب إلى دعم مشاريع تبدو في كثير من الأحيان غير واقعية من حيث الجدول الزمني أو العائد المتوقع. طغيان فكرة المشاريع العملاقة على المشهد الاقتصادي يطرح إشكالية أخرى. فمبادرات مثل نيوم، ذا لاين، ومشروع البحر الأحمر لا تزال تُقدّم كرموز رئيسية للتحول، لكنها أصبحت أيضًا أحد أكثر الملفات تأزمًا بسبب ارتفاع تكلفتها وعدم وضوح قدرتها على توليد عائد اقتصادي سريع. التقارير التي تحدثت عن تخفيضات فعلية في حجم بعض المشاريع أو تأجيل مكوناتها تكشف أن الخزانة وصندوق الاستثمارات العامة لم يعودا قادرين على الحفاظ على الوتيرة نفسها. وهذا لا يهدد فقط الجدول الزمني المعلن بل يضرب أيضًا صورة الثقة التي حاولت “السعودية” ترسيخها لدى المستثمرين الدوليين. التراجع عن الوعود أو تعديلها بعد سنوات من الدعاية المكثفة يبدو اعترافًا غير مباشر بأن الطموح سبق الإمكانات بكثير. يبرز أيضًا ما يمكن وصفه بأزمة تزاحم على الموارد. فالإنفاق الواسع على المشاريع العملاقة يستهلك قدرًا كبيرًا من المواد الخام والعمالة والخبرات والموارد اللوجستية. هذا الواقع يقلص الفرص المتاحة للقطاع الخاص التقليدي ويجعله تابعًا للإنفاق الحكومي بدلًا من أن يكون شريكًا حقيقيًا في النمو. إن الحديث الرسمي عن تمكين القطاع الخاص يتعارض مع الواقع الفعلي الذي يهيمن عليه صندوق الاستثمارات العامة كمحرك أحادي للنشاط الاقتصادي، ما يجعل السوق محصورة بين القطاع الحكومي الضخم وبين صندوق يتمتع بصلاحيات مالية لا ينافسه فيها أحد. ويشير العديد من المحللين إلى أن هذا النموذج لا يبني اقتصادًا متنوعًا بل يعيد إنتاج الاعتماد على الدولة بأشكال مختلفة. الدور المتنامي لصندوق الاستثمارات العامة يمثل محورًا آخر للنقد الواسع. فهذا الصندوق الذي تم تقديمه كأداة لتنويع الإيرادات تحوّل فعليًا إلى محفظة مالية ضخمة تُستخدم لتمويل مشاريع داخلية باهظة التكلفة، إضافة إلى استثمارات خارجية تهدف إلى تعزيز النفوذ الدولي. المشكلة ليست فقط في حجم الضغط الواقع على الصندوق، بل في غياب الشفافية حول كيفية اتخاذ القرارات داخله، وما إذا كان يوازن فعلاً بين المخاطر والعوائد. ومع احتمال تراجع قدرة الحكومة على تغذيته بالأموال في ظل انخفاض أسعار النفط، قد يجد الصندوق نفسه مضطرًا إلى بيع جزء من أصوله لتأمين السيولة، وهو ما يعني عمليًا أن “السعودية” تموّل التحول الاقتصادي عبر استنزاف أصول مستقبلية بدلًا من خلق موارد مستدامة. وفي الجانب الاجتماعي، تظهر الميزانية وما يرتبط بها من سياسات مالية توجهات لا تقل جدلاً. فالجزء الأكبر من الإيرادات غير النفطية التي يجري الحديث عنها منذ سنوات لا يأتي من نجاح قطاعات إنتاجية جديدة، بل من الضرائب والرسوم. رفع ضريبة القيمة المضافة، وزيادة الرسوم الحكومية على المواطنين والمقيمين، وتوسيع دائرة الجباية، كلها إجراءات خلقت ضغطًا معيشيًا حقيقيًا على الناس. هذا النموذج لا يمثل تنويعًا اقتصاديًا بقدر ما يمثل إعادة توزيع للعبء المالي من الدولة إلى السكان. ومع غياب تحسن موازٍ في جودة الخدمات العامة، يصبح تأثير هذه السياسات أقرب إلى التقشف غير المعلن. وتشير مخاوف اقتصادية عديدة إلى أن السياسات المالية المتشددة قد تمس العقد الاجتماعي التقليدي في “السعودية”. فإذا كان المواطن يتحمل ارتفاع التكاليف، فمن المفترض أن يرى مقابلًا واضحًا في الخدمات الصحية والتعليمية وفرص العمل. إلا أن الواقع يشير إلى فجوة متزايدة بين العبء الذي يتحمله الأفراد والنتائج التي يلمسونها، ما يجعل الثقة في فعالية السياسات المالية تتراجع تدريجيًا. عند جمع هذه العناصر معًا، تظهر صورة أكثر تعقيدًا للطموح الاقتصادي. فميزانية 2026 لا تكشف فقط عن ضغوط مؤقتة، بل تكشف عن تضارب بنيوي بين مشاريع عملاقة تتطلب تمويلًا طويل الأمد وبين قدرة مالية تعتمد بشكل شبه كامل على سلعة متقلبة هي النفط. كما تكشف عن نموذج في الإدارة المالية يعتمد على توسعة الإنفاق دون بناء قاعدة إنتاجية حقيقية، وعن لجوء متكرر إلى المؤسسات السيادية لسد العجز بدلًا من خلق بدائل اقتصادية فعلية. وفي السياق نفسه، يتضح أن الإجراءات المتخذة حتى الآن لا تكفي لمعالجة هذا التناقض. فالمراجعات التي يُفترض أنها جارية للمشاريع الكبرى لا تزال بعيدة عن مستوى الشفافية المطلوب. والخطاب الرسمي الذي يتحدث عن تنويع الاقتصاد يظل غير مدعوم بأرقام ملموسة تشير إلى نجاح القطاعات الجديدة. والإصرار على تضخيم المشاريع العملاقة يجعل الاقتصاد أسيرًا لمشروع واحد أو اثنين بدلًا من أن يكون مبنيًا على قاعدة واسعة من الأنشطة المستقلة. في المحصلة، تكشف ميزانية 2026 أن “السعودية” تقف عند نقطة مفصلية بين حلم يجري تسويقه إعلاميًا وبين واقع مالي يفرض شروطه بقسوة. النقد الأساسي هنا لا يتعلق بالتحول بحد ذاته، بل بالطريقة التي يُدار بها، وبغياب الآليات المؤسسية التي تضمن استدامته، وبالتردد الظاهر في الاعتراف بأن بعض المشاريع بحاجة إلى إعادة تقييم حقيقية. ومع استمرار الضغوط المرتبطة بأسعار النفط وبالتزامات الإنفاق، يبدو أن السنوات المقبلة ستحدد ما إذا كانت رؤية 2030 تتحرك ضمن مسار مستدام أم أنها تسير داخل دائرة طموح غير قابل للتمويل طويلًا.