“أنظمة الخليج” في حرب الذكاء الاصطناعي بين أميركا والصين
خلال شهر أيار الفائت، أبرم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومبعوثوه من وادي السيليكون صفقات مع “دول الخليج”، أبرزها الإمارات العربية المتحدة و”السعودية”، في مجال الذكاء الاصطناعي. هذه الصفقات، التي أُعلن عنها في بيان لوزارة التجارة الأميركية، تُعيد تشكيل خريطة القوة التكنولوجية العالمية، وهي صفقات أثارت تساؤلات في الصحف الدولية حول مستقبل هيمنة الولايات المتحدة في هذا المجال الحيوي، والمخاطر الجيوسياسية المترتبة على هذا التحول، خاصة في ظل تساؤلات حول شفافية هذه الصفقات وتأثيرها على استقرار المنطقة وسياسات حقوق الإنسان، خاصة في دول مثل “السعودية” والإمارات المعروفتين بتلطخ سمعة ملف حقوق الإنسان فيها. ويظهر من خلال هذه الصفقات كيف باتت هذه الدول التي تتغنى بـ”شراكتها” مع الولايات المتحدة الأميركية أداة بيد الأخيرة في حلبة الحرب مع الصين، التي تُعدّ رقائق الذكاء الإصطناعي مسألة أساسية فيها. تحول جذري في استراتيجية الذكاء الاصطناعي كانت زيارة ترامب للشرق الأوسط، التي استغرقت ثلاثة أيام، بمثابة نقطة تحول حاسمة، وتكشف التفاصيل، وفقًا لثلاثة مصادر مطلعة على المحادثات نقلتها صحيفة “نيويورك تايمز”، عن اتفاق ضخم مع الإمارات لتوريد مئات الآلاف من أحدث رقائق “إنفيديا” سنويًا، بهدف بناء أحد أكبر مراكز البيانات في العالم. ومن المقرر أن تبدأ عمليات الشحن هذا العام، مع توجيه الغالبية العظمى من الرقائق إلى مزودي الخدمات السحابية الأمريكية، ونحو 100 ألف رقاقة لشركة G42 الإماراتية الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي. لم يقتصر الأمر على الإمارات فحسب، فخلال جولة ترامب في المنطقة، أبرمت الولايات المتحدة أيضًا اتفاقيات بمليارات الدولارات لبيع رقائق متطورة من شركتي “إنفيديا” و”إيه إم دي” إلى “السعودية”. ولا تزال المناقشات جارية بين الولايات المتحدة والسعودية بشأن عقد أكبر لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وفقًا لخمسة أشخاص مطلعين على المفاوضات. هذه التحركات تمثل تحولاً جذرياً في الاستراتيجية الأمريكية من “الاحتواء” إلى “الانتشار الاستراتيجي”، وهو ما يعني تخفيف القيود على صادرات رقائق الذكاء الاصطناعي التي كانت إدارة بايدن قد فرضتها. الدوافع وراء الصفقات: تسريع البنية التحتية والوصول إلى التمويل تُعدّ مراكز البيانات هي القلب النابض لسباق الذكاء الاصطناعي العالمي. فبدونها، تبقى الرقائق عالية الدقة مجرد قطع من السيليكون عديمة الفائدة. تواجه الولايات المتحدة تحديات كبيرة في بناء مراكز البيانات محليًا بالسرعة المطلوبة، نتيجة لقيود الموارد، واللوائح التنظيمية المعقدة، والمعارضة السياسية. قد يستغرق الحصول على التصاريح سنوات، وتُثير المحادثات الأولية بين الشركات والمسؤولين المحليين، التي تتم خلف أبواب مغلقة، ردود فعل غاضبة من الرأي العام. وعند تشغيلها، قد تُحمّل مراكز البيانات شبكات الكهرباء فوق طاقتها، وتزيد من تكاليف المرافق، وتُفاقم خطر انقطاع التيار الكهربائي. هنا يبرز دور أنظمة الخليج كحل استراتيجي بالنسبة للمعضلة الأميركية. تُقدم الإمارات و”السعودية” طاقة منخفضة التكلفة، ومرونة تنظيمية، وإمكانية الوصول إلى صناديق الثروة السيادية التي تبلغ قيمتها تريليون دولار. تستطيع هذه الصناديق تحمل الإنفاق الأولي الضخم والعوائد المؤجلة التي تُميّز استثمارات الذكاء الاصطناعي، نظرًا لخلوّها من الالتزامات قصيرة الأجل. علاوة على ذلك، تُولد هذه الصفقات مع دول الخليج إيرادات تُعوّض الخسائر الناجمة عن الانفصال الاقتصادي عن الصين. بالنسبة للأنظمة الخليجية، يمكن أن يُنظر للأمر على أنه فرصة لتمكين “طموحها” في مجال الذكاء الاصطناعي، إلا أن هذا “الطموح” يثير التساؤلات حول كيفية استخدام هذه التقنيات المتقدمة في دول تُعرف بسجلها في قمع الحريات ومراقبة المعارضين، مما قد يؤدي إلى تعزيز قدرات هذه الأنظمة في تضييق الخناق على المعارضة. قلق متزايد ومخاوف استراتيجية على الرغم من التفاؤل الذي أبداه مفاوضو الصفقة في إدارة ترامب، مثل ديفيد ساكس، كبير مسؤولي الذكاء الاصطناعي، وسريرام كريشنان، كبير مستشاري سياسات الذكاء الاصطناعي، إلا أن هذه الصفقات قوبلت بتشكك وقلق في واشنطن. تحدثت نيويورك تايمز مع تسعة مسؤولين أمريكيين حاليين وسابقين أعربوا عن قلقهم من أن هذه الاتفاقيات قد لا توفر حماية كافية لمنع الصين من الاستفادة من التكنولوجيا المتقدمة. بل إنهم يخشون أن تؤدي هذه الصفقات إلى أن تكون أكبر مراكز البيانات في العالم في الشرق الأوسط بحلول نهاية العقد، بدلاً من الولايات المتحدة. وجهة النظر هذه تقوم على أساس أن الصفقات المماثلة تتناقض مع جوهر سياسات ترامب “أمريكا أولاً”، التي لطالما ركزت على إعادة الصناعات الأمريكية إلى الداخل وفرض رسوم جمركية باهظة على السلع المستوردة. فكيف يمكن لإدارة تُعلن ولاءها لتعزيز الصناعة المحلية أن تُرسل جزءًا أساسيًا من صناعة المستقبل إلى الخارج؟ يرى منتقدو الصفقة أن كل مركز بيانات يُبنى في الخارج هو مشروع لم يُبنَ في الولايات المتحدة، مما يعني انخفاضًا في فرص العمل وعائدات الضرائب، وتقليلًا لتأثير الحكومة الأمريكية المباشر على أي مكاسب اقتصادية أو عسكرية من الذكاء الاصطناعي. كما تثير الصفقة تساؤلات حول طبيعة الأنظمة التي تُبرم معها هذه الاتفاقيات. فقد رفضت إدارة بايدن سابقاً مقترحاً مشابهاً من طحنون بن زايد آل نهيان، رئيس مجموعة G42، لاعتقادها بأن ذلك سينقل وظائف الذكاء الاصطناعي إلى الخارج ويُعهد بالبنية التحتية الحيوية للأمن القومي إلى جهات خارجية. لكن إدارة ترامب، خوفًا من أن يؤدي تقييد الوصول إلى التكنولوجيا الأمريكية إلى لجوء الإمارات إلى البدائل الصينية، مضت قدماً في هذه الاتفاقيات. يُحذّر النقاد من أن الشراكة مع أنظمة الخليج الاستبدادية قد تُرسّخ قيمًا غير ليبرالية في الأنظمة الرقمية المستقبلية، وهو قلق يستحق دراسة جادة. ويزداد هذا القلق لدى المعارضين للسياسات السعودية، الذين يرون في هذه الصفقات تعزيزًا لقدرات النظام في المراقبة والتحكم بالمعلومات، مما يزيد من صعوبة عمل المعارضة ويثير مخاوف بشأن استخدام هذه التقنيات في قمع الحريات الرقمية وحقوق الإنسان. فالسعودية، التي واجهت انتقادات دولية واسعة بشأن سجلها في حقوق الإنسان، قد تستخدم هذه التقنيات لتعزيز قبضتها الأمنية، مما يجعلها أداة فعالة في أيدي الأنظمة القمعية. نموذج جديد للقوة العالمية والرهانات الجيوسياسية وفقا لصحيفة “ناشيونال انترست”، “تُعيد إدارة ترامب تقييم دور حلفاء الخليج في السياسة الخارجية الأمريكية، واصفة إياهم بـ “أصول مُقلَّل من قيمتها”. يُعيد الخليج ابتكار نفسه، مُعطياً الأولوية للتنويع الاقتصادي والتقدم التكنولوجي والانفراج على الصراع والمواجهة. هذا التحول يُعيد ترتيب هرم التحالفات الأمريكية بهدوء ولكن بحزم، حيث تزداد أهمية دول الخليج نظرًا لقيمتها الاستراتيجية في سباق الذكاء الاصطناعي”. ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية تحمل مخاطر كبيرة. أحد أبرز هذه المخاطر، وفقا لمراقبين “هو انهيار وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، وصراع أمريكي إسرائيلي طويل الأمد مع طهران. سيؤدي استئناف الأعمال العدائية إلى تأخير أو إلغاء مشاريع البنية التحتية في الخليج، وستصبح مراكز الذكاء الاصطناعي التابعة للولايات المتحدة عوائق سياسية، أو حتى أهدافًا استراتيجية، مما يُزعزع ثقة المستثمرين”. كما تُنشئ هذه الصفقات تبعيات غير متكافئة، وفقا لناشيونال انترست. فبينما يُساهم حلفاء الخليج بالموارد ويُوائِمون سياساتهم مع أهداف الذكاء الاصطناعي الأمريكية، تُساهم الولايات المتحدة برقائق عالية الدقة، وتُرسخ نظامها البيئي للذكاء الاصطناعي في المنطقة، باستخدام برمجيات وأجهزة مُلكية، مما يُقيد دول الخليج بالاعتماد طويل الأمد على التكنولوجيا والصيانة الأمريكية. هذه الاستراتيجية مربحة للجميع على المدى القريب، فكل طرف يحل مشكلة وجودية مع توسيع قدراته في مجال الذكاء الاصطناعي ونفوذه الجيوسياسي. أما على المدى البعيد، فقد يتحول شركاء الخليج إلى منافسين للولايات المتحدة، بينما قد تستغل واشنطن اعتمادهم على التكنولوجيا الأمريكية لتحقيق أهداف استراتيجية غير ذات صلة. وفي هذا السياق، يرى المعارضون للسياسات السعودية أن هذه التبعية التكنولوجية تُعرّض السعودية لخطر استغلال الولايات المتحدة لنفوذها، مما قد يحد من سيادة المملكة في قراراتها المستقبلية. “مغامرة جريئة في عالم متغير وتهديد للمعارضة” يرى المراقبون أن صفقات الذكاء الاصطناعي التي أبرمتها إدارة ترامب مع دول الخليج تُعدّ مغامرة جريئة في عالم متغير، حيث تُعيد تشكيل قواعد اللعبة في سباق الهيمنة التكنولوجية. فبينما تُقدم هذه الصفقات حلاً فورياً لتحديات البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة وتُعزز نفوذها في المنطقة، إلا أنها تُثير مخاوف جدية بشأن الأمن القومي، والتحكم في التكنولوجيا، ومستقبل الصناعة الأمريكية. كما أنها تُسلط الضوء على تحول في السياسة الخارجية الأمريكية، حيث أصبحت القوة في العصر الرقمي تنبع بشكل متزايد من البنية التحتية للحوسبة والتحكم في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، بدلاً من الأيديولوجية التقليدية. من الأسئلة التي تُطرح في هذا المجال: هل تُضحي الولايات المتحدة بهيمنتها التكنولوجية على المدى الطويل من أجل مكاسب قصيرة الأجل؟ وهل تُشكل هذه الصفقات سابقة خطيرة لانتقال الصناعات الحيوية إلى الخارج؟ الأهم من ذلك، بالنسبة للمعارضين للسياسات السعودية، هي الكيفية التي ستؤثر بها هذه التقنيات على الفضاء المدني وحقوق الإنسان، وهل ستعزز من قدرة الأنظمة على تتبع وقمع أي صوت معارض، مما يجعل من هذه الصفقات أداة لتعزيز الأنظمة الاستبدادية في المنطقة على حساب حريات الأفراد والمجتمعات؟
