الاعتداء على حرية التنقل: استخدام حظر السفر التعسفي في “السعودية”
يقدم تقرير منظمة القسط لحقوق الإنسان تحليلاً معمقاً حول الممارسات السعودية المتعلقة بحظر السفر التعسفي، مشدداً على التناقض بين الصورة العصرية والتقدمية التي تسعى البلاد لتقديمها للعالم، والواقع الفعلي الذي يعيشه العديد من مواطنيها ومقيميها. يبرز التقرير أن انتهاك حرية التنقل، وهو حق إنساني أساسي، أصبح من أبرز مظاهر هذا التناقض. ففي الوقت الذي تفتح فيه السلطات السعودية البلاد للاستثمار والسياحة وتخفف قيود التأشيرات وتستضيف فعاليات كبرى، فإنها في المقابل تمنع أعداداً متزايدة من مواطنيها من مغادرة البلاد بشكل تعسفي وغير قانوني. يرى التقرير أن حظر السفر هذا هو جزء لا يتجزأ من نمط أوسع من أعمال الانتقام وقمع جميع أشكال المعارضة في البلاد. يشير التقرير إلى أن الإفراج عن العشرات من معتقلي الرأي في الأشهر الأولى من عام 2025، نتيجة لجهود المناصرة، لا يعني بالضرورة نهاية معاناتهم. بل إن الخروج من السجن غالباً ما يرافقه شكل آخر من أشكال القمع الخفي، حيث يُمنع العديد منهم من السفر إلى الخارج لسنوات طويلة. هذا المنع يشكل انتهاكاً صارخاً للمعايير الدولية الأساسية لحقوق الإنسان. ويزيد الأمر سوءاً أن هذه القيود غالباً ما تمتد لتشمل أفراداً من أسر المعتقلين، مما يحولها إلى شكل من أشكال العقاب الجماعي. وتساهم هذه التدابير، إلى جانب آثارها الشخصية القاسية، في تعميق مناخ الخوف والترهيب السائد داخل البلاد. الخلفية القانونية والانتهاكات يؤكد التقرير أن قرارات حظر السفر التعسفية هذه تُشكل انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي لحقوق الإنسان. ويستند في ذلك إلى المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تنص على أن “لكل فرد الحق في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، والعودة إليه”. كما يستشهد بالميثاق العربي لحقوق الإنسان، الذي صادقت عليه السعودية، والذي ينص بصيغة أكثر وضوحاً على أنه “لا يجوز حرمان المواطنين تعسفياً أو بصورة غير قانونية من مغادرة أي بلد عربي، بما في ذلك بلدهم”. وليس ذلك فحسب، بل إن هذه الإجراءات تتناقض أيضاً مع القوانين الوطنية السعودية نفسها. فبموجب نظام وثائق السفر في المملكة، “لا يجوز منع أي شخص من السفر إلا بحكم قضائي أو بقرار يصدر من وزير الداخلية أو رئيس أمن الدولة، لأسباب محددة تتعلق بالأمن ولمدة زمنية محددة”. ويجب كذلك إشعار من صدر بحقه المنع من السفر خلال مدة لا تتجاوز أسبوعاً من تاريخ صدور الحكم أو القرار المذكور. لكن الواقع مختلف، فالتقرير يلاحظ تزايداً في فرض قيود حظر السفر بشكل غير رسمي، أي دون أي إخطار أو مبرر رسمي كما يقتضي نظام وثائق السفر السعودي. وفي كثير من الأحيان، لا يعلم الضحايا بوجود حظر السفر المفروض عليهم إلا عند محاولتهم مغادرة البلاد، حيث يتم منعهم في المطارات أو عند المعابر الحدودية. أنواع حظر السفر وأمثلة عليها: نوعين رئيسيين لحظر السفر * قرارات حظر السفر الصادرة عن المحاكم: تُفرض هذه القرارات عادةً بشكل مسبق، بحيث تطبق بعد الإفراج من السجن، كجزء من الحكم القضائي. وغالباً ما تكون لمدة مساوية لمدة فترة السجن نفسها. عندما تُفرض هذه القيود على أشخاص احتجزوا تعسفياً بسبب ممارستهم السلمية لحقوقهم الأساسية أو كنتيجة لإجراءات قضائية غير عادلة أو تمييزية، فإن قرارات حظر السفر هذه تُعد بدورها تعسفية. كما يتناول التقرير حظر السفر “غير الرسمي” الذي يُفرض من دون أي إخطار رسمي بصدور قرار وزاري ذي صلة، أو تقديم مبررات أمنية، أو تحديد مدة زمنية واضحة. من أبرز ضحايا هذه الممارسة: * لجين الهذلول: الناشطة في مجال حقوق المرأة، التي على الرغم من انتهاء مدة حظر السفر القضائي الصادر بحقها في 12 نوفمبر 2023، إلا أنها لا تزال ممنوعة من السفر حتى اليوم، دون تلقي أي إشعار رسمي بوجود حظر جديد أو مستمر. وهذا يثير المخاوف من أن يواجه آخرون المصير ذاته عند انتهاء مدة الحظر الصادر بحقهم. * مريم العتيبي: الناشطة في مجال حقوق المرأة أيضاً، التي سعت لرفع الحظر عنها عبر التواصل مع جهات رسمية متعددة، لكن جميع جهودها باءت بالفشل. يوضح التقرير أن خبراء الأمم المتحدة قد وجهوا رسالة إلى السلطات السعودية في مارس 2024 لطلب توضيح الأسس القانونية لمنع الهذلول والعتيبي من السفر، لكن رد السلطات كان مخيباً للآمال ورفض المخاوف المثارة بادعاءات متناقضة ومضللة. وبسبب افتقار حظر السفر غير الرسمي إلى أي أساس قانوني معلن، لا توجد أي وسيلة رسمية للطعن فيه أو طلب رفعه. العقاب الجماعي والآثار الإنسانية يُسلط التقرير الضوء على استخدام السلطات السعودية المتزايد لحظر السفر التعسفي ضد أفراد عائلات الأشخاص المستهدفين، في ما يبدو أنه شكل من أشكال العقاب الجماعي. وقد طالت هذه الممارسة جميع أفراد عائلة لجين الهذلول المقيمين داخل المملكة، وكذلك 19 فرداً من عائلة رجل الدين الإصلاحي سلمان العودة. وفي الوقت نفسه، يُمنع أفراد العائلة المقيمون في الخارج، مثل لينا الهذلول (شقيقة لجين) وعبد الله العودة (نجل الشيخ سلمان)، من العودة إلى البلاد خشية الملاحقة القضائية. تُخلّف قرارات حظر السفر التعسفية، بجميع أنواعها، آثاراً بالغة على حياة الضحايا. فهي تحول دون تمكنهم من زيارة أفراد أسرهم المقيمين في الخارج، أو متابعة طموحاتهم الشخصية والمهنية خارج البلاد، أو الحصول على رعاية صحية متخصصة في الخارج. هذا يؤدي إلى تأثير عميق على الصحة النفسية والعاطفية للأشخاص المتضررين بشكل مباشر، وكذلك على أفراد عائلاتهم. كما تمثل هذه الإجراءات انتهاكاً مباشراً للحق الأساسي في حرية التنقل، وتقييداً لقدرة الأفراد على عيش حياة كريمة وفاعلة. وغالباً ما تترافق مع قيود إضافية مثل حظر العمل أو ممارسة النشاط على وسائل التواصل الاجتماعي. يسرد التقرير أمثلة مؤثرة إنسانيا عن بعض المعتقلين: * محمد القحطاني: المدافع عن حقوق الإنسان، الذي أُفرج عنه في 7 يناير 2025، لا يزال خاضعاً لحظر سفر لمدة 10 سنوات، مما يحرمه من الاجتماع بزوجته وأولاده الخمسة المقيمين في الولايات المتحدة. * رائف بدوي: المدون، المفرج عنه في 11 مارس 2022، ما زال خاضعاً لحظر سفر لمدة 10 سنوات، مما يحول دون لقائه بزوجته وأطفاله الثلاثة المقيمين في كندا. * سعد إبراهيم الماضي: المواطن السعودي-الأمريكي البالغ من العمر 75 عاماً، الذي أُفرج عنه في 20 مارس 2023 بعد سجن بسبب تغريدات سلمية، أبلغته وزارة الداخلية أنه لا يزال خاضعاً لحظر سفر لمدة 19 عاماً، مما يمنعه من العودة إلى الولايات المتحدة ولم شمله مع عائلته هناك. كما تعيق قرارات حظر السفر الأفراد من تحقيق طموحاتهم المهنية والشخصية، بما في ذلك استكمال دراساتهم. مثال على ذلك: * سلمى الشهاب: طالبة الدكتوراه التي أُفرج عنها في 10 فبراير 2025 بعد أكثر من أربع سنوات في السجن، تواجه الآن حظر سفر لمدة ثماني سنوات، مما يحول دون عودتها إلى المملكة المتحدة لاستكمال دراساتها العليا. بالإضافة إلى ذلك، يُحرم العديد من معتقلي الرأي من الوصول إلى الرعاية الصحية المتخصصة في الخارج، والتي قد تكون ضرورية بعد سنوات من السجن والتعرض لسوء المعاملة الجسدية والحرمان من الأدوية الضرورية داخل السجون. القمع المستمر والتوصيات: يؤكد التقرير أن هذه القيود تأتي ضمن نمط أوسع من القمع الذي يستهدف النشطاء السلميين والمعارضين في “السعودية”. ففي “السعودية”، لم يعد هناك مجتمع مدني مستقل، وتكاد حرية التعبير والتجمع السلمي والمشاركة السياسية تكون معدومة بالكامل. ومنذ وصول ولي العهد محمد بن سلمان إلى السلطة في عام 2017، شهدت المملكة تركيزاً متزايداً للسلطة وحملة قمع غير مسبوقة استهدفت حرية التعبير وجميع أشكال المعارضة، وقد صدرت أحكام مطولة وغير مسبوقة، بل وأحكام بالإعدام، بحق أشخاص مارسوا حقوقهم الأساسية سلمياً. وفي الختام، وجّهت منظمة القسط دعوات إلى “السلطات السعودية”، منها “ضمان احترام حقوق حرية التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات بشكل كامل، والإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع معتقلي الرأي، ورفع جميع قرارات حظر السفر فوراً، سواء كانت قضائية أو إدارية أو غير رسمية، المفروضة على الأفراد بسبب ممارستهم لحقهم في حرية التعبير أو التجمع أو تكوين الجمعيات، ورفع جميع قرارات حظر السفر المفروضة على أفراد عائلات الأفراد المستهدفين، واحترام حقهم في حرية التنقل”.
