حصار قطر.. نهاية وهم الاستقرار في الممالك العربية

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 3063
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

ترجمة وتحرير شادي خليفة - الخليج الجديد
كان الربيع العربي حدثًا هائلًا أثر على الجمهوريات العربية أولًا. وكانت أنظمة معظم البلدان التي شهدت ثورات بنتائج دائمة، نظريًا على الأقل، في العالم العربي، أنظمة جمهورية مثل تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن.
ومع ذلك، لم يمس الربيع العربي الملوك في العالم العربي، ولم يتأثر الخليج نسبيًا بهذه العملية. ولا يعني هذا أنّ احتجاجات الربيع العربي لم تحدث أيضًا في الخليج، أو الخريطة الملكية الأكبر لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لقد ظهرت هناك بعض الاحتجاجات. لكنّها كانت إما ضئيلة نسبيًا أو قمعت بالقوة في مهدها، كما كان الحال في البحرين وعمان.
وفي عمان، في يناير/كانون الثاني عام 2011، بدأت مظاهرة صغيرة من قبل مجموعة من الناس تطالب بتحسيناتٍ اجتماعية واقتصادية في العاصمة مسقط. ووصلت هذه الاحتجاجات إلى المركز التجاري للبلاد، صحار، بحلول فبراير/شباط. وبعد القمع القسري انتشرت هذه الاحتجاجات بسرعة إلى أجزاءٍ أخرى من البلاد، حيث تمّ إخمادها لاحقًا من قبل النظام.
وعلى الرغم من أهمية القضية العمانية، وقعت أهم موجات المظاهرات في الخليج إبان الربيع العربي، في البحرين.
وفي مارس/آذار عام 2011، في حين كانت القوات التي تقودها المملكة العربية السعودية تمارس القمع الشديد تجاه الانتفاضة المدنية في البحرين، كانت الغالبية الساحقة من بلدان المنطقة التي دعمت الربيع العربي إما تشارك في هذه الجريمة أو تغض الطرف عنها. وفي حين قدمت قطر مساهماتٍ للقوات العسكرية بقيادة السعودية في البحرين، ظلت تركيا صامتة حول العملية التي شُنت ضد هذه الموجة من الربيع العربي.
والغريب أنّ نفس الكتلة تقريبًا بدأت آنذاك بدعم المعارضة في سوريا. وقد اعتقدت إيران وبعض الجهات الفاعلة الأخرى التي عارضت الربيع العربي أنّ صمت تلك البلدان التي دعمت التغيير الإقليمي في مواجهة الحوادث في البحرين، كان نتيجة سياسة انتقاء طائفية. وقد شكل الشيعة، الأغلبية في البحرين، العمود الفقري لموجة الاحتجاجات.

كيف كسر الخليج موجة الربيع العربي
على الرغم من هذه الحوادث، كان الملوك العرب، وخاصةً الدول الحاكمة في الخليج، قادرين على إدارة موجات التغيير في العالم العربي.
وفي حين توجت الاحتجاجات في الجمهوريات العربية إما بالإطاحة بالنظم القديمة أو تحولت إلى حروبٍ أهلية كاملة، فقد واجه الملوك العاصفة، إما بإجراء بعض التعديلات الدستورية التجميلية وفتح المجال السياسي كما هو الحال في المغرب والأردن والكويت، أو إغراق السكان بالمنح والعطايا والعلاوات، كما حدث في الخليج.
وربما يظهر الفارق إذا ذكرنا أنّه في حين كانت الانتفاضات في الجمهوريات العربية تهدف إلى تغيير الأنظمة، سعت الاحتجاجات في النظم الملكية إلى التعجيل بإصلاح النظام.
وإلى جانب هذه الاستجابة الأولية، اتبعت العديد من دول الخليج، ولاسيما السعودية، استراتيجية ذات ثلاث اتجاهات، تهدف إلى كسر تأثير الربيع العربي في مجتمعاتهم. حيث زاد الملوك الخليجيون، في الاتجاه الأول، بشكلٍ حاد، من الإنفاق لاستيعاب الضغوط الاجتماعية ومنع الاستياء الشعبي. وقد اتبعت الأردن والمغرب، وهما نظامين ملكيين غير خليجيين، نفس الأمر.
وقد أصبحت شرعية هؤلاء الملوك الآن، إلى حدٍ كبير، مقرونة بمدى الرفاهية الاقتصادية التي يستطيعون تقديمها لشعوبهم.
وكان القمع هو الاتجاه الثاني، حيث تم شن حملات ضد المعارضة وتقييد جميع الجماعات الاجتماعية والسياسية إلى أقصى حد. وقد استخدمت الدول الخليجية جميع التدابير القسرية والقمعية التي عرفتها الجمهوريات العربية البوليسية، مثل سوريا، وفي الوقت نفسه، وفرت مزايا وخدمات اجتماعية سخية لمجتمعاتها. وذلك في حين لم تتمكن معظم الجمهوريات العربية البوليسية من تحمل تكاليف تنفيذ سياسات الرعاية الاجتماعية المماثلة.
وقد استطاعت السعودية فرض تقييد على التجمعات المختلفة، وقمعت الاحتجاجات التي بدأت بالظهور في المنطقة الشرقية ذات الأغلبية الشيعية. في حين ذهبت الإمارات إلى أبعد من ذلك، حيث اتفقت مع مؤسس شركة بلاك ووتر ذي السمعة السيئة، «إريك برينس»، لتشكيل وحدة أمنية جديدة، تتألف من جنود مرتزقة قادرين على قمع حوادث الاضطراب الاجتماعي بسرعة، والقيام بعمليات خاصة محليًا وخارجيًا، والدفاع عن خطوط أنابيب النفط وناطحات السحاب من الهجمات الإرهابية. وشكلت وحدة عسكرية قوامها 800 شخص يتألفون من مقاتلين أجانب من المرتزقة، معظمهم من الكولومبيين، ومن جنوب أفريقيا، وأستراليا، ومنهم بعض الأوربيين.
وجاء الاتجاه الثالث عبر إطلاق العنان للثورات المضادة، حيث اعتبر الملوك، وخاصةً في الإمارات والسعودية، أنّ موجة التغيير هذه تشكل تهديدًا وجوديًا، وحاولت تنظيم موجة مضادة ومقاومة للإسلاميين على نطاقٍ إقليمي. وكان الانقلاب المصري أكبر إنجازٍ لهذه الموجة من الثورة المضادة. حيث جاء الانقلاب المصري بتوقيع «صنع في الخليج». وقد رأينا نفس شكل الثورة المضادة والموجة المعادية للإسلاميين في ليبيا.

هل كانت الأنظمة الملكية استثنائية؟
وقد عملت هذه الاستراتيجية حتى الآن. وقد دفع هذا البعض إلى تأكيد استثنائية الأنظمة الملكية في مواجهة الانتفاضات الشعبية في الشرق الأوسط. واعتُبر ذلك دليلًا على استقرار هذه الأنظمة إلى حدٍ كبير. ومن الواضح أنّ الأنظمة الملكية كانت لها بعض المزايا التي تتفوق بها على أقرانها من الأنظمة الجمهورية فيما يتعلق بتجربة موجات التغيير في العالم العربي.
وربما كان السبب في ذلك هي النواة التي بني على أساسها وحولها كلا النظامين. ففي حين بنيت الأنظمة الجمهورية على الأيديولوجية القومية العربية أو الإسلامية، واتخذت لنفسها واجهة دستورية وديمقراطية تعتمد على الانتخابات كصك للشرعية، بنيت الأنظمة الملكية على أساس من العادات والتقاليد المتجذرة بعمق في مجتمعاتها. لذا لم يكن مقبولًا لدى الشعوب في البلاد ذات الأنظمة الجمهورية أن يتحول النظام إلى نظام أسري وراثي يفرط في أيديولوجيته التي بني على أساسها. وعلى النقيض، لم يكن لدى الشعوب في الدول ذات الأنظمة الملكية أي مشكلة في النظام الوراثي الأبوي.

المخاوف تتغلب على الأرض
لكن لم يكن لهذه المزايا أن تحمي هذه الأنظمة من السخط الشعبي لفترة طويلة، وقد لا تعمل استراتيجيات عصر الربيع العربي التي تستخدمها الدول العربية إلى وقتٍ طويل. وحقيقة أنّ هذه الجهات الفاعلة ما زالت تستثمر كثيرًا في هذه الاستراتيجيات، قد تؤدي بهم إلى نتائج عكسية. وليس هناك ما يدل على فهم هذه الأنظمة بما فيه الكفاية للتهديدات أو التحديات لفترة ما بعد الربيع العربي. وقد حصرت الأنظمة كل التهديدات والتحديات في الإسلام السياسي، بيد أنّه من الواضح أنّ هذه الحقبة الجديدة تأتي مع تهديداتها وتحدياتها الجديدة.
ورغم أنّ طبيعة التهديدات التي تواجهها هذه البلدان في فترة ما بعد الربيع العربي قد شهدت تغيرًا خطيرًا. يظل الإسلام السياسي تهديدًا ذا أولوية لدى الإمارات ونظام «السيسي» في مصر، وإن كان مبالغًا فيه، خاصةً بالنسبة للإمارات.
ورغم الحجم والتأثير المحدود لحزب الإصلاح التابع للإخوان المسلمين، الذي تأسس عام 1974، في الإمارات، حيث ذكر ولي عهد أبوظبي «محمد بن زايد» أنّ الإمارات تضم ما لا يزيد عن 700 من أعضاء الإخوان، وفقًا لما ذكرته وزارة الخارجية الأمريكية عام 2004، تنفق الإمارات مليارات الدولارات في محاربة المنظمة في كل أنحاء المنطقة، وهو بالفعل أمرٌ محير. ومن خلال تمويل الانقلاب في مصر، مع السعودية، والحفاظ على نظام «السيسي» واقفًا على قدميه، وتمويل الحرب ضد قوات الإسلام السياسي في ليبيا واليمن وفلسطين والخليج، فقد أهدرت الإمارات مليارات الدولارات. وبذلك، لا تقاتل الإمارات تهديدًا حقيقيًا، بل هي تحاول قمع أي تحركٍ شعبي.
ولا يشكل الإسلام السياسي، ولاسيما جماعة الإخوان المسلمين، تهديدًا أكبر للسعودية. وكتنظيم، لا يتمتع الإخوان بوجودٍ كبير في المملكة، وبالتالي لا يملكون قوة الحشد. وفي الواقع، إدراكًا لمخاوف السعودية، حاولت حكومة «محمد مرسي» في مصر أن تخفف من حدة هذه المخاوف. وعند الوصول إلى السلطة، كانت السعودية أول بلدٍ اتصل به «مرسي» وزاره.
وخلال فترة حكمه التي استمرت أقل من عام، زار «مرسي» السعودية ثلاث مرات. حتى أنه حاول مواءمة السياسة الخارجية لمصر مع السياسة السعودية فيما يتعلق بإيران، عدو المملكة. وخلال قمة حركة عدم الانحياز في طهران، في أغسطس/آب عام 2012، قام «مرسي» بشدة بتعنيف «نظام الأسد» أمام الراعي الإيراني. إلا أنّ هذه الجهود لم تحسن العلاقات بين الإخوان المسلمين والسعوديين. وعلى العكس من ذلك، كانت السعودية أهم قوة خارجية، إلى جانب الإمارات، في التآمر للإطاحة بحكومة «مرسي» في انقلاب 3 يوليو/تموز عام 2013.
ويبدو أنّ السعودية لم تحارب الإخوان المسلمين لقدرتهم على الحشد، بل لقدرتهم على وضع نموذجٍ جديدٍ وأكثر جاذبية يحدد طبيعة العلاقات بين الإسلام والسلطة السياسية والشرعية.
وقد قدم الإخوان المسلمون نموذجًا مختلفًا تكون فيه الطبقة الحاكمة مجهزة بكلٍ من الشرعية الدينية والإسلامية من ناحية، والشرعية الشعبية والديمقراطية من ناحيةٍ أخرى. وكانت الخلطة التي يروج لها الإخوان المسلمين بين الدين والشرعية الشعبية أو الإسلام والديمقراطية هو بالضبط ما يهدد النظام السعودي.
ولا يزال نموذج الإخوان يشكل تحديًا مفاهيميًا للمملكة. لكنّ هذا التحدي لن يشكل مشكلةً حقيقية في الوقت القريب، وتتضاءل مخاطره بالمقارنة مع التهديدات الحقيقية التي تواجهها المملكة في المنطقة.

تهديداتٌ أكبر في الأفق
تتسبب أجندة السعودية المناهضة للإسلام في جعلها هشة جغرافيًا وسياسيًا، وتضعفها في منافستها مع إيران. وعلاوةً على ذلك، فإن إدراج شرط إغلاق قاعدة تركيا في الدوحة، على قائمة المطالب الـ 13 المرسلة إلى قطر في الأزمة الأخيرة، لن يؤدي إلا إلى تعميق المعضلات الناشئة بسبب السياسات الإقليمية السعودية.
ويجب على المملكة إجراء تحليلٍ منطقيٍ وإعادة ترتيب الأولويات. ومن الناحية الجيوسياسية، تعد الطموحات الإقليمية الإيرانية أكبر تهديدٍ للسعودية. وهذه ليست قضية سياسية خارجية للسعوديين فحسب، بل هي أيضًا قضية أمنية تؤثر بشكلٍ مباشر على أوضاعهم الداخلية.
وهناك عددٌ كبيرٌ من الشيعة في المناطق الشرقية من المملكة قد تتمكن إيران من التعامل معهم واستخدامهم. ويعزز سوء معاملة المملكة لهؤلاء السكان قدرة إيران على إغرائهم بالاحتجاج والغضب.
بالإضافة إلى ذلك، في حين يقترب سيناريو تقسيم اليمن الذي تدفع إليه الإمارات من ذروته، لم تتمكن السعودية حتى الآن من تأمين حدودها مع اليمن بشكلٍ صحيح. وعلاوةً على ذلك، وعلى الرغم من الدمار الذي خلفته الحرب والمذابح العديدة، لم تفلح بعد في هزيمة الحوثيين.
وكان على المملكة أن تتبع سياسةً خارجية أكثر تطورًا، وأن تتخذ حزب الإصلاح التابع للإخوان المسلمين في اليمن كشريك في مواجهتها ضد الحوثيين. لكنها قد حاربت الإخوان المسلمين في كل مكان بدلًا من ذلك.

ضرب عصفورين بحجر
وتتزامن الهشاشة الجيوسياسية للمملكة مع فترة تشهد تغيرًا كبيرًا في هيكل السلطة. وكان منصب الملك ينتقل دائمًا أفقيًا بين أبناء الملك عبدالعزيز، الملك المؤسس للمملكة العربية السعودية، وقد تغير هذا الآن.
ومع تعيين «محمد بن سلمان» وليًا للعهد الشهر الماضي، أصبحت هناك إمكانية للانتقال العمودي للسلطة من الآن فصاعدًا. وبدلًا من التنافس بين الأبناء، تجري الآن مسابقة بين الأحفاد، الأمر الذي يجلب العديد من التعقيدات والتحديات.
وفي ظل هذه الخلافات التي حدثت مؤخرًا بين الكتلة التي تقودها السعودية بقيادة أربعة بلدان وقطر، يبدو أنّه في نهاية هذه الأزمة، لن تقدم السعودية والإمارات من جهتها ولا قطر من جهتها، أي تنازلاتٍ كبيرة.
وبدلًا من ذلك، سوف تدفع الولايات المتحدة كلًا منها لتقديم التنازلات. وعندما سُئلت المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة، «نيكي هالي»، أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، عن الأزمة، قالت أنّ الولايات المتحدة «ينبغي أن تأخذ الأمر كفرصة لتحقيق الأهداف في كلا الجانبين».

وداعًا للاستقرار
لذلك سيتعين على كلٍ من قطر والسعودية أن تكون أكثر انفتاحًا على المطالب الأمريكية. ونتيجةً لهذه الأزمة، ستتفرق الجبهة المشتركة التي كان السعوديون يريدون إقامتها ضد إيران، وسينتهي الأمر بجمهورياتٍ وممالك عربية أكثر هشاشة.
وقد أتيحت للمملكة فرصةً ذهبية للقيام بدورٍ قياديٍ في العالم العربي، في الوقت الذي تعاني فيه الدول العربية الكبرى الأخرى من الفوضى. لكنّها اختارت المشاركة في قيادة معسكر الدول القائمة على الاستبداد. ولم يقتصر الأمر على فشل المعسكر الذي تقوده السعودية في حشد المزيد من الدول العربية أو الإسلامية لدعم محاولتها لعزل قطر، بل أخفقت أيضًا في فرض إرادتها على هذا البلد الصغير.
وإذا رفضت قطر منح هذا المعسكر أي تنازلاتٍ كبيرة، فإنّ الأضرار التي ستلحق بتلك الكتلة ستكون أكثر حدة. وبما أنّ الأطراف الرئيسية في الأزمة، عدا مصر، هي جميعها أعضاء في مجلس التعاون الخليجي، سيخرج المجلس من هذه الأزمة ضعيفًا بشكلٍ كبير، إن لم ينته تمامًا. وبالنظر إلى هيمنة المملكة على المجلس، سيعني ضعف المجلس خسارة كبيرة للسياسة الخارجية السعودية. وعلاوةً على ذلك، كلما زاد تداول مسمى «أزمة» أمام اسم الخليج، كلما سيُنظر إلى هذه المنطقة من خلال نفس منظور الفوضى والأزمات التي تضرب الشرق الأوسط، وبالتالي لن تعود جزيرةً للاستقرار. وسيكون لذلك انعكاساتٍ على أمن الخليج واستقراره وازدهاره.
وعلى نطاقٍ أوسع، كلما طال أمد هذه الأزمة، زاد احتمال أن نشهد نهاية الحالة الاستثنائية للأنظمة الملكية في المنطقة وتحطم وهم الاستقرار الملكي.
المصدر | غالب ديلاي - ميدل إيست آي