كيف سقطت المؤسسة الدينية السعودية في فخ قيادة المرأة للسيارة؟

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 2388
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

 بعد ساعات قليلة من تقليم أظافر "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ودراسة إلغائها وضمها إلى وزارة الشؤون الإسلامية، أعقبها موجة من الجدل جراء الانفتاح غير المسبوق من قبل السعوديين خلال احتفالات اليوم الوطني للمملكة والسماح للمرأة السعودية ولأول مرة بالدخول إلى الملاعب الرياضية دون محرم والمشاركة في الحفلات الموسيقية الصاخبة، ها هي السعودية تدخل معتركًا جديدًا من الإثارة وذلك عقب القرار الملكي بالسماح للمرأة بقيادة السيارة بعد ماراثون طويل من التحريم والتجريم والمنع.

القرار الذي أصدره العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، أمس الثلاثاء، بتطبيق أحكام نظام المرور ولائحته الجديدة التي تسمح بإصدار رخص القيادة، للذكور والإناث على حد سواء، استند في تشريعه إلى "رأي أغلبية أعضاء هيئة كبار العلماء بشأن قيادة المرأة للمركبة من أن الحكم الشرعي في ذلك هو من حيث الأصل الإباحة، وأن مرئيات من تحفظ عليه تنصب على اعتبارات تتعلق بسد الذرائع المحتملة التي لا تصل ليقين ولا غلبة ظن، وأنهم لا يرون مانعًا من السماح لها بقيادة المركبة".

التحول الواضح في موقف هيئة كبار العلماء السعودية من الرفض التام والمتشدد لقيادة المرأة للسيارة إلى الموافقة عليها وبهذا الحماس أثار البلبلة لدى الكثير من السعوديين وغير السعوديين على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، مما قد يهدد بسحب البساط من تحت أقدام المؤسسة الدينية في المملكة لصالح ولي العهد محمد بن سلمان الذي يسير في طريقه نحو بناء مجد شخصي يداعب من خلاله الداخل والخارج على حد سواء حتى ولو كان ذلك على حساب القطب الثاني المكون للنظام الحاكم في السعودية، وهم (ذرية الشيخ محمد بن عبد الوهاب).

تناقض واضح

حرصت هيئة كبار العلماء بالمملكة منذ تدشينها على الإقرار بتحريم قيادة المرأة للسيارة، متماشية في ذلك مع توجهات الملك ونظامه الحاكم، واجتهد علماؤها في ذلك من خلال فتاواهم واستشاراتهم، وهو ما تسبب في كثير من الأحيان في تعرضها للهجوم والانتقادات من الداخل والخارج، إلا أن المملكة رأت في ذلك ثابتًا وركيزة أساسية لنظام حكمها القائم - وفق ما تعلنه - على الشريعة الإسلامية، إلى أن جاء محمد بن سلمان ورؤيته "2030" لتنقلب المملكة رأسًا على عقب، وما بين ليلة وضحاها، تتحول المواقف وتتبدل الفتاوى، حتى إن كان القرار يتضمن بعض الشروط الخاصة بالقيادة.

ابن باز أرجع التساهل في تشريع قيادة المرأة للسيارة بـ"الجهل بالأحكام الشرعية وبالعواقب السيئة التي يفضي إليها التساهل بالوسائل المفضية إلى المنكرات

من التحريم القطعي

العديد من الفتاوى الواضحة الخاصة بتحريم قيادة المرأة للسيارة أقرها علماء المملكة، على رأسهم الراحل الشيخ عبد العزيز بن باز، والذي أفتى بأنها "تؤدي إلى مفاسد لا تخفى على الداعين إليها، منها الخلوة المحرمة بالمرأة والسفور والاختلاط بالرجال دون حذر".

ابن باز أرجع التساهل في تشريع قيادة المرأة للسيارة بـ"الجهل بالأحكام الشرعية والعواقب السيئة التي يفضي إليها التساهل بالوسائل المفضية إلى المنكرات، مع ما يبتلى به الكثير من مرضى القلوب من محبة الإباحية والتمتع بالنظر إلى الأجنبيات، كل هذا يسبب الخوض في هذا الأمر وأشباهه بغير علم وبغير مبالاة بما وراء ذلك من الأخطار".

وهو ما أقره أيضًا الشيخ محمد بن صالح العثيمين، حين أجاب عن سؤال بشأن حكم قيادة المرأة للسيارة بقوله: إن قيادة المرأه للسيارة تتضمن مفاسد كبيرة فمن مفاسد هذا نزع الحجاب، نزع الحياء، حرة طليقة، سبب لتمرد المرأه على أهلها وزوجها".

الأمر لم يقتصر على كبار علماء المملكة الراحلين فقط، بل إن الشيخ صالح بن فوزان الفوزان، عضو لجنة الإفتاء وهيئة كبار العلماء حتى الآن فأقر هو الآخر بتحريمها مرجعًا ذلك إلى ما يترتب عليها من مفاسد على المرأة منها: أنها ستضطر إلى خلع الحجاب والاختلاط بالرجال، كذلك إمكانية خروجها أي وقت شاءت من ليل أو نهار لأن مفتاحها معها وسيارتها معها فتذهب إلى حيث شاءت، ومن ثم فإن فقيادة المرأة للسيارة فيها محاذير كثير.

أما الداعية الشيخ صالح اللحيدان، فتطرق إلى جزئية أخرى في تحريم قيادة المرأة للسيارة أرجعها إلى أبعاد فسيولوجية طبية حين قال: "إذا قادت المرأة السيارة لغير الضرورة، قد يؤثر ذلك عكسيًا على الناحية الفسيولوجية، فإن علم الطب الوظيفي الفسيولوجي قد درس هذه الناحية بأنه يؤثر تلقائيًا على المبايض ويؤثر على دفع الحوض لأعلى"، وتابع "لذلك نجد غالب اللاتي يقدن السيارات بشكل مستمر يأتي أطفالهن مصابين بنوع من الخلل الإكلينيكي المتفاوت لدرجات عدة".

بل إن مفتي السعودية نفسه في أبريل الماضي، وخلال مشاركته في برنامج "مع المفتي" المقدم على قناة "المجد" أجاب عن سؤال بشأن حكم قيادة المرأة للمركبة بقوله:  "يا إخواني، المسلم يفكر في تعاليم الشريعة وحمايتها للمسلم من الرذيلة ووقايتها من الشر، وأن الشرع أغلق الوسائل المُفضية للشرور"، مشددًا على "نهي المرأة أن تسافر من غير محرم، وأن يدخل عليها أحدٌ من غير محرم، وأمرها بالحجاب وحثّها على ذلك".

وتابع: "قيادة السيارة قد تفتح عليها أبواب شر ولا تنضبط أمورها، فالواجب والمطلوب منا ألا نقرَّ هذا، لأن هذا أمر خطير يعرضها للشرور، لا سيما من ضعفاء البصائر الذين يتعلقون بالنساء، وربما سبب خروجها وحدها وذهابها إلى كل مكان من غير علم أهلها بها شرور كثيرة، نسأل الله السلامة والعافية".


اللحيدان: "إذا قادت المرأة السيارة لغير الضرورة، قد يؤثر ذلك عكسيًا على الناحية الفسيولوجية فإن علم الطب الوظيفي الفسيولوجي قد درس هذه الناحية بأنه يؤثر تلقائيًا على المبايض ويؤثر على دفع الحوض لأعلى"

إلى الترحيب المطلق

ثم جاء الأمر السامي بالأمس بشأن أحقية المرأة في القيادة ليقابل بترحيب وتأييد من معظم أعضاء هيئة كبار العلماء حسبما أشار نص القرار، وعلى الفور كتبت الهيئة على صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" لتقول: "حفظ الله #خادمالحرمينالشريفين الذي يتوخى مصلحة بلاده وشعبه في ضوء ما تقرره #الشريعة_الإسلامية"، معلنة تأييدها الكامل لهذا القرار وأنه جاء في ضوء ما تقره الشريعة وذلك بعد أقل من خمسة أشهر فقط على فتوى مفتي السعودية بتحريم هذا الأمر.


وكالعادة أنبرى العديد من أعضاء الهيئة وكبار العلماء في المملكة لإعلان تأييدهم لهذا القرار، حيث وصف مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وعضو هيئة كبار العلماء الدكتور سليمان بن عبد الله أبا الخيل، القرار بأنه "حكيم وصائب وموفق وإيجابي، وجاء في وقته المناسب، وهو مبني على أسس شرعية، فالأصل فيه الإباحة".

وقد برر أبا الخيل شرعية القرار بأنه انطلق من "حيثيات تنظيمية ومعطيات وحقائق ووثائق وأرقام ووقائع اجتماعية مؤلمة واقتصادية سلبية، وبه مصالح كبيرة وظاهرة، ودرءًا لمفاسد متعدّدة دينية واجتماعية وسلوكية وأخلاقية لا تخفى على كل متابع ومباشر لما يتعلق بوجود السائق الأجنبي والمخاطر العظيمة المترتبة على خلوته بالنساء ودخوله إلى المنازل وخروجه منها دون رقيب ولا حسيب ولا متابعة".

ليس مفاجئًا

قرار قيادة المرأة السعودية للسيارة لم يكن مفاجئًا كما توقع البعض، بل سبقه عدة شواهد وأدلة تلمح إلى نوايا مسبقة لتشريعه وإقراره، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال عدة مواضع، أولها: السماح للمرأة السعودية ولأول مرة بالانفتاح نحو المشاركة في الفعاليات الثقافية والفنية والرياضية، وذلك خلال الاحتفال بالعيد الوطني للمملكة، حيث سمح بدخول المرأة استاد الملك فهد بالرياض دون محرم في سابقة هي الأولى من نوعها، كذلك السماح بإقامة الحفلات الفنية التي تشارك بها مطربات سعوديات ويحضرها الرجال والنساء على حد سواء، وهو ما أثار الجدل وزاد من بورصة التكهنات أن هناك أمر ما يدبر داخل المطبخ الملكي لأجل المرأة السعودية.

ثانيهما: حملة الاعتقالات التي طالت عشرات العلماء والدعاة المعروف استقلاليتهم النسبية عن العزف على وتر التأييد المطلق للمملكة، وذلك خلال الأيام السابقة، وبصرف النظر عن دعاوى وتبريرات الاعتقال والتوقيف إلا أن القرار في ذاته كان إيذانًا باتخاذ أوامر أو إجراءات جديدة وإنذارًا لكل من يفكر أن يسير عكس ركابها.

ثانيها: أنه جاء بعد أيام من قيام السلطات السعودية بمنع الشيخ سعد الحجري، من الإمامة، بسبب محاضرة له في أحد مساجد مدينة خميس مشيط، بمنطقة عسير (جنوب المملكة)، تحدث فيها عن مفاسد قيادة المرأة للسيارة وتحريم الشرع لهذه الخطوة وما إلى غير ذلك، وهو ما دفع أمير المنطقة، فيصل بن خالد، إلى منعه من الإمامة والخطابة ووقف أنشطته الدعوية كافة، في قرار عزاه البعض إلى توجه ما نحو تشريع هذا القرار قريبًا، وهو ما حدث بالفعل.

هذا التناقض الواضح في موقف المؤسسة الدينية السعودية من التحريم إلى الترحيب، والذي يتماشى بشكل واضح مع توجهات المملكة، وعلى الأخص توجهات محمد بن سلمان، الذي استطاع في الأونة الأخيرة أن يخرج السعودية خطوة خطوة خارج مثلث برمودا الوهابي، ساعيًا إلى تقليل النفوذ الديني داخليًا، يدفع مرة أخرى للتساؤل عن استقلالية القرار لدى العلماء ورجال الدين ومدى تبعيتهم وخضوعهم للقرار السياسي للملك وحاشيته.

وصف مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وعضو هيئة كبار العلماء الدكتور سليمان بن عبد الله أبا الخيل، القرار بأنه "حكيم وصائب وموفق وإيجابي، وجاء في وقته المناسب، ومبني على أسس شرعية

سياسية أم دينية؟

تكييف وتوصيف طبيعة عمل المؤسسة الدينية في المملكة جدلية قديمة حديثة متجددة، فهل هي مؤسسة دينية في المقام الأول؟ أم سياسية؟ أم أنها سياسية بغطاء ديني؟ في تقرير لـ"نون بوست" حاول الإجابة عن هذه الجدلية من خلال الإشارة أولاً إلى العرف القديم المبرم بين آل سعود وآل الشيخ (ذرية الشيخ محمد بن عبد الوهاب) والذي يحدد مناطق نفوذ واختصاصات كل فريق، حيث تترك أمور الدعوة والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لآل الشيخ مقابل ترك آل الشيخ للأمور العامة والسياسة والعلاقات الخارجية لآل سعود وعدم التدخل فيها.

التقرير توصل إلى أن التيار الديني في غالبه يلعب دورًا سياسيًا أكثر منه دينيًا ومن ثم تخلى عن دوره ورسالته التي نشأ من أجلها، وهو ما كشفه التقرير وفق عدة شواهد على رأسها الغياب شبه التام لهيئة كبار العلماء عن المشاركة برؤيتها الدينية وفتواها حيال بعض القرارات التي تتخذها السعودية، كشرعية وجود قواعد أمريكية فوق أرض الحرمين، ودعم الغزو الأمريكي لدولة شقيقة وهي العراق، وما إلى غير ذلك من الأمور التي ربما يكون للشرع رأي آخر فيها.

صمت رجال الدين السعوديين حيال الأنشطة التي تقوم بها هيئة الترفيه التي أقرها محمد بن سلمان مؤخرًا، رغم ما يتخللها من تجاوزات، يدفع إلى تعزيز هذه الرؤية الخاصة بتبعية المؤسسة الدينية للقرار السياسي

في الوقت الذي اقتصر دورها لخدمة توجهات النظام عبر إصدار الفتاوى التي تحرم المعارضة السياسية، والإفتاء بضرورة السمع والطاعة والولاء الكامل للحاكم في كل الأحوال، حتى ولو كان على غير الصواب، ويندر أن توجد فتاوى تتعلق بحق الأمة في اختيار ولاتها ببيعة لا إجبار فيها ولا صورية.

وربما تأتي التصريحات التي أدلى بها إمام الحرم المكي الشيخ عبد الرحمن السديس، بخصوص الولايات المتحدة الأمريكية ورئيسها، تجسد هذا التوجه بصورة لا تقبل الشك، وتكشف كيف تحول رجال الدين إلى أداة لدعم النظام وتوجهاته بصرف النظر عن تعارضها مع رؤية المملكة التراثية لأحكام الشريعة، حيث قال في مقابلة مع قناة "الإخبارية السعودية": "السعودية والولايات المتحدة قطبا هذا العالم في التأثير، وبزعامة الملك سلمان بن عبد العزيز، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يقودان العالم والإنسانية إلى مرافئ الأمن والسلام والاستقرار والازدهار".

علاوة على ذلك فإن صمت رجال الدين السعوديين حيال الأنشطة التي تقوم بها هيئة الترفيه التي أقرها محمد بن سلمان مؤخرًا، رغم ما يتخللها من تجاوزات (موسيقى واختلاط وغير ذلك من المسائل التي ترى المؤسسة الدينية تحريمها من قبل)، يدفع إلى تعزيز هذه الرؤية الخاصة بالتبعية للقرار السياسي، ولعل صمت مفتي المملكة عن سؤال أحد الجنود على الحدود اليمنية له خلال مشاركته في إحدى البرامج الفضائية عن حكم تجاوزات الاحتفال باليوم الوطني للمملكة، وتجاهله للإجابة، يجسد الحالة بشكل كبير.


ما بين التأييد والرفض

جدلية القرار انتقلت بدورها إلى مواقع التواصل الاجتماعي، حيث انقسم المتابعون من السعوديين وغيرهم إلى فريقين، أحدهما مؤيد لهذه الخطوة ودشن لها هاشتاغ#الملك_ينتصرلقيادهالمراه بينما الآخر معارض لها ولما سيترتب عليها من آثار ودشن هاشتاغ #الشعبيرفضقيُادهالمراه

فالمؤيدون استندوا إلى أن احتشام المرأة لا علاقة له بقيادة السيارة أو غيرها


وفي المقابل هناك من تساءل عن دوافع الموافقة على هذا القرار في هذا التوقيت في الوقت الذي كان يرفض مناقشة المسألة برمتها قبل وقت قليل

 

وبصرف النظر عن كون هذا القرار شرعيًا أم غير شرعي إلا أن التحول في موقف المؤسسة الدينية من الرفض التام إلى التأييد المطلق إرضاءً لتوجهات محمد بن سلمان ورؤيته 2030 ربما يمثل مسمارًا في نعش هذه المؤسسة، ويزيد من معدلات فقدانها لنفوذها رويدًا رويدًا لصالح أطماع ولي العهد الذي نجح في تحويل التيار الديني إلى أداة سياسية يوظفها حسب طموحاته