أين حكماء الخليج حتى لا يتحول التناحر الإعلامي الى اقتتال وانتهاك حرمات وإسقاط أنظمة؟

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 2326
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

محمود بوناب
ما فائدة وجود مجلس التعاون الخليجي وما الذي أنجزه هذا المجلس منذ تأسيسه في الرياض يوم 25 مايو 1981 بهدف درء الجموح الشيعي الذي رافق الثورة الإيرانية واحتواء أخطار الحرب العراقية الإيرانية التي اندلعت في سبتمبر عام 1980، إذا كانت هذه المنظمة الإقليمية العربية اليوم أو فيما مضى عاجزة كل العجز عن احتواء أدنى توتر يطرأ على العلاقات بين الدول الأعضاء الست في المجلس وتطويق الخلافات التي تهدد السلم الإقليمي واستقرار تلك الدول وازدهار شعوبها؟
للوهلة الأولى، يبدو مشروع إنشاء تكتل إقليمي متجانس تجمع بين دوله وشعوبه أواصر اللغة والدين والثقافة والتاريخ والجغرافيا والثروات الطبيعية والقرابة القبلية والعائلية، ويضم كيانات مشتتة لم يكن لها أي نفوذ أو تأثير على الساحتين الإقليمية والدولية، إلا بما تختزنه أراضيها من ثروات ومصار طاقة تتحكم فيها القوى الغربية والاستعمارية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تحكما مطلقا، فكرة رائعة خاصة في أذهان العامة من الناس.
غير أنه وبعد مرور 36 عاما على إنشاء المجلس، وجب الإقرار بكل موضوعية وتجرد، وبمرارة كبيرة أيضا، بأن مشروع قيام مجلس التعاون لم يكن أبدا وليد رؤية سياسية واقتصادية تطمح إلى النهوض ببلدان المنطقة وشعوبها نحو الاستقرار والازدهار وتحقيق التكامل الاجتماعي والاقتصادي والنقدي والتعليمي… وأن النية من وراء إنشاء المجلس لم تكن آنذاك سوى تكريس لتراكمات ورواسب الماضي بكل ما فيها من أحقاد وخيانات وتواطء مع المستعمر من حيث ارتباط معظم الأسر الحاكمة في تلك البلدان ارتباطا عضويا وثيقا بالقوة التي كانت تستعمر بلدانها ومنحتها الاستقلال، أي بريطانيا، وبتلك التي تسيطر سيطرة مطلقة على ثرواتها، أي الولايات المتحدة، مقابل توفير مظلة أمنية أمريكية للأنظمة والأسر الحاكمة فيها، على أساس ضمان الأمن والاستقرار لتلك الأنظمة وإبعادها عن دوائر القرار القومي العربي وتحييدها في كل ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي.
لكن حتى في المجال الأمني والاستراتيجي، فإن دول مجلس التعاون فشلت تماما في بناء منظومة إقليمية متماسكة تضمن حماية أمنها القومي والدفاع عن أوطانها ومصالحها وخصوصياتها السياسية والثقافية بقدرات ذاتية وبإقامة تعاون دولي محايد وغير متحيز، واقتصرت الترتيبات الأمنية الخليجية على فتح جميع تلك الدول أبوابها شاسعة أمام القواعد والتسهيلات العسكرية الغربية وبالتحديد الأمريكية والبريطانية بذريعة مجابهة الخطر الإيراني، واستعمال العائدات المالية الضخمة لمبيعات المحروقات لإبرام أكبر الصفقات لشراء الأسلحة الأمريكية والغربية…
وقد تبين أن كل تلك الأسلحة لم تكن مجدية لا في صد الاجتياح العراقي للكويت فجر 2 أغسطس عام 1990 ولا في تحرير جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى الإماراتية من الاحتلال الإيراني ولا حتى أسهمت، ولو بالحد الأدنى، في دعم فصائل المقاومة الفلسطينية أو اللبنانية “الشقيقة” ضد الاحتلال والعربدة الإسرائيلية…
فالعتاد الحربي الأضخم قد اشترته المملكة العربية السعودية، وهي الدولة المحورية في المجلس من حيث ثقلها الجغرافي والسكاني والاقتصادي والديني… لكنها رغم ذلك لم تطلق رصاصة واحدة لدرء الأخطار المباشرة التي تزعم أنها تهدد أمنها ومصالحها، وعلى رأسها الخطر الإيراني المزعوم والمُضَخم، ولم نرى السعودية تستعمل تلك المعدات الحربية إلا في مقاومة التطرف والإرهاب في داخل المملكة أو خلال تدخل الجيش السعودي في البحرين من أجل قمع انتفاضة الشيعة أو منذ أن قررت الرياض توريط قواتها المسلحة وحلفائها والتدخل بترسانتها الحربية “الهائلة” ضد شعب فقير أعزل بذريعة التصدي للحوثيين حلفاء إيران في اليمن.
لقد كان بوسع مجلس التعاون الخليجي أن يكون التجمع الإقليمي العربي الأكثر نجاحا وتكاملا وتألقا، لكن معظم بلدان المجلس إن لم نقل جميعها، باستثناء سلطنة عمان، حديثة العهد بمفهوم الدولة وهي نتاج القرن العشرين من حيث أن معظمها وبقطع النظرعن التطور العمراني الذي شهدته والتقدم الكبير في البنى التحتية والخدمات وتحسين مستويات المعيشة لرعاياها… لم توفق في الانتقال من “الدولة القبلية” الى “الدولة القومية”، وحافظت معظم الأسر الحاكمة فيها على وسائل وأدوات وممارسات تقليدية بالية تلفظ الحداثة وتنظر بعين الريبة والخوف إلى كل ما يجري من حولها في العالم سيما كل ما يتعلق بنضالات الشعوب من أجل الحرية والعدالة واحترام حقوق الإنسان…
فضلا عن ذلك، فإن الحدود المصطنعة بين بلدان وكيانات الخليج والموروثة عن الاستعمار الإنجليزي أفرزت بلدانا “مصطنعة” لأن تلك الحدود تم رسمها بإرادة المستعمر الذي بذل كل ما في وسعه للإبقاء في عملية الرسم على الكثير من الشوائب ومناطق الريبة، وبقيت بعض النزاعات الحدودية بين دول المجلس قائمة تشكل مصدر توتر دائم إلى يومنا هذا سواء من أجل السيطرة على حقول النفط في مناطق لم تُرسم حدودها بوضوح كامل، أو نتيجة لخصومات قبلية متكررة سيما في المناطق الصحراوية.
إلى جانب ذلك، فإن بقاء النزاعات الحدودية بين بلدان مجلس التعاون، والتي آل بعضها إلى مواجهات مسلحة، وظفته الأسر الحاكمة في إذكاء نار الحمية الوطنية والعصبية القبلية اعتقادا منها أن ذلك سيساهم في ترسيخ الهوية الوطنية لشعوبها وإعطاء الشرعية للدولة “المصطنعة”.
فضلا عن كل ما سبق، فإن مشروع مجلس التعاون قد ولد معلولا نتيجة اختلال ميزان القوى بين مكونات المجلس. فهناك من جهة السعودية صاحبة الثقل التاريخي والسكاني والاقتصادي والعسكري و”الشرعية الدينية”، وهناك في المقابل خمسة بلدان أخرى لو اجتمع عدد سكانها لما بلغ نصف سكان السعودية، ولم يكن بوسع أي منها، على الأقل خلال السنوات الأولى من قيام المجلس، الخروج من “بيت الطاعة” السعودي لأن منظومة العلاقات بين الدول، حتى وإن كان ذلك ضمن حلف إقليمي ومصالح وتطلعات مشتركة، تعكسها عوامل واقعية تركز بالأساس على أهمية عنصر القوة والثقل العسكري.
فعلى سبيل المثال لا المقارنة، لا يمكن لدولة مثل إيسلندا أن تقف في وجه الولايات المتحدة أو بريطانيا داخل حلف شمال الأطلسي، ولا يمكن لدوقية لوكسمبورغ أو دولة سلوفينيا أن تنزع زمام المبادرة من أيدي فرنسا وألمانيا في قيادة الاتحاد الأوروبي. غير أن البون الشاسع الفاصل بين الممارسات السائدة داخل الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي من جهة وتلك المعمول بها داخل مجلس التعاون الخليجي من جهة أخرى هو أن القوى الغربية الكبرى ابتكرت آليات سياسية ودبلوماسية وتشريعية و”أخلاقية” تضمن للدول الصغيرة إسماع صوتها والدفاع عن مصالحها وحتى قلب الطاولة إن لزم الأمر، بينما “الشقيقة الكبرى” بمجلس التعاون الخليجي تعاملت على الدوام مع “شقيقاتها” على أنهن “صغار وأتباع″، وأن مصلحتهن تكمن بالضرورة والإكراه أحيانا، في طاعة الرياض وإرضاءها وعدم إثارتهما أو إغضابهما والالتزام بتوجيهات ونصائح “خادم الحرمين”.
وتكفي هنا قراءة في صياغة البيانات الختامية لمؤتمرات القمة المتعاقبة لبلدان مجلس التعاون ليتبين أن تاريخ البيان هو وحده الذي يتغير بينما الجوهر متكلس…نفس الألفاظ الرنانة والأسلوب الإنشائي بمضمون خاوي.
لذا، وأمام كل هذه الشوائب والمصائب، يتعين على دول مجلس التعاون أن تفتح عيونها وآذانها وقلوب وعقول قياداتها على حقيقة صادمة ومريرة، وهي أن الأزمة الحالية داخل مجلس التعاون أسبابها عديدة منها انعدام الثقة والصدق بين قادة المجلس وهيمنة “الكبير” على “الصغير”، والتمسك بالعصبيات القبلية والنزعات العنصرية من أن “آل سعود أفضل من آل ثاني، وآل ثاني أفضل من آل خليفة وآل نهيان أفضل من آل الصباح وأن هذا وهابي حقيقي وذاك وهابي مبتذل، وأن هذا أكثر عمالة لإسرائيل وذاك أكثر تواطئ مع أمريكا وأن هذا مواطن وذاك بحراني”، هذا فضلا عن الغياب التام لرؤية سياسية مشتركة وإرادة مشتركة وعدم الاعتماد بالدرجة الأولى على القدرات الذاتية في حماية المصالح والمكاسب المشتركة، واللهث وراء سراب الحماية الأجنبية والسعي بكل صلافة وخنوع لإرضاء الحليف الأمريكي على حساب الشقيق مهما كلف ذلك والطعن في الظهر بمناسبة وبغير مناسبة…
نعم، لقد بينت الأزمة الحالية أن مجلس التعاون الخليجي انتهت صلاحيته في صيغته الحالية وبات بمثابة شاهد زور على احتداد الأزمة السياسية والأخلاقية التي تعيشها دول المجلس وعلى الأخطاء الفادحة وخيارات قادتها البعيدة كل البعد عن المصلحة والصواب، وإذا ما استمرت الأوضاع الراهنة على ما هي عليه من تعفن ورياء، فإن الفتنة وحدها هي التي ستفكك بلدان مجلس التعاون وتدمرها وليست إيران، لأن إيران لن تكون في حاجة لإطلاق رصاصة واحدة أو حتى لرفع صوتها أو يدها للاستفراد بالخليج وبسط هيمنتها المطلقة على المنطقة لعقود… وهي قادرة كما فعلت في السابق على إيجاد آليات تفاهم مع القوى العظمى بما في ذلك مع “الشيطان الأكبر” لتحقيق أهدافها وضمان مصالحها.
فأين العقلاء وأهل الحكمة في الرياض وأبو ظبي والدوحة والمنامة لمعالجة الأمور في كنف الهدوء وترجيح العقل على العاطفة والابتعاد عن التحريض والتهريج والولاء الأعمى لهذا الطرف أو ذاك على حساب الحق والمصالح الحيوية العليا لدول الخليج وشعوبها؟
إعلامي تونسي